11/11/2021 - 12:30

روّاد، يا للروّاد! | ترجمة

روّاد، يا للروّاد! | ترجمة

لوحة تظهر اجتياح البحريّة الإنجليزيّة لجزيرة دومينيكا عام 1761.

 

العنوان بالإنجليزيّة: Pioneers, Oh, Pioneers.

ترجمة: أسماء حسين. 

 

بينما كانت الفتاتان تسيران في شارع «ماركت ستريت» شديد الحرارة[1]، وكزت إيرين أختها وقالت: "انظري إليها!".

لم تكونا على مبعدة من السوق، وما زال بإمكانهما أن تشتمّا زفرة السمك.

حين التفتت روزالي كانت النساء البيض القلائل اللاتي رأتهنّ يحملن مظلّات الباراسول[2]. النساء السود كُنّ حافيات الأقدام، معتمرات التوربانات[3] البهيّة المقلّمة، ومرتديات الأثواب ذات الخصر المرتفع. إنّه القرن التاسع عشر، تحديدًا تشرين الثاني من عام 1899.

- "ها هي"، قالت إيرين.

وها هنا كانت السيّدة مينزيس، ممتطية جوادها نحو منزلها في أعلى التلّة لقضاء نهاية أسبوع لطيفة.

- "صباح الخير"، بادرتها روزالي، لكنّ السيّدة مينزيس لم تردّ التحيّة. سارت من أمامهما، كليب - كلوب، كليب - كلوب، بثياب التجوال السميكة الغامقة، الّتي جُلِبت من إنجلترا قبل عشر سنوات، محاوِلة أن تحافظ على توازن طرد ضخم على ركبتيها كان يَقطر ماءً وملفوفًا في قماشة.

- "إنّه ثلج، تحبّ شرابها باردًا"، قالت روزالي.

- "لِمَ لا تدعهم يرسلونه إليها كما يفعل الآخرون؟ السود يسخرون منها. عليها أن تخجل من نفسها".

- "لا أرى داعيًا إلى ذلك"، قالت روزالي بتعنُّت.

- "يا لكِ!"، تهكّمت إيرين. "يروقكِ المخابيل، يروقكِ جيمي لونغا، وتروقكِ مينزيس الأمّ. راقكِ رامِج، رامِج البغيض البربريّ الفظيع".

قالت روزالي: "لقد تذمّرتِ حياله في الأمس".

- "الأمس غير محسوب. أمّي ترى أن الهيستيريا انتابتنا جميعًا بالأمس".

في هذه الأثناء، أوشكتا أن تبلغا البيت؛ ولهذا أمسكت روزالي عن الردّ. على أنّها أخرجت لها لسانها بينما كانتا تصعدان الدرج المؤدّي إلى الرواق الطويل الرطيب.

كان والدهما الدكتور كوكس يجلس على كنبة، وبجواره منضدة ثلاثيّة القوائم.

كان غليونه وصفيحة تبغه ونظّارته على المنضدة. الإصدار الأسبوعيّ من صحيفة «التايمز» ومجلّة «كورنهيل» ودوريّة «اللانسيت»[4] وإحدى صحف غرب الإنديز، وجريدة «دومينيكا هيرالد» و«جزر الليوارد» الرسميّة.

أدركت الفتاتان حالًا أنّه ليس بالأوان الملائم  لمبادرته بالحديث، رغم أنّ إحداهما تبلغ الحادية عشرة فقط والأخرى التاسعة.

"شبع موتًا"، كان يتمتم حين مرّتا بجانبه متّجهتين إلى الغرفة المجاورة المكتظّة بالكراسي الهزّازة، طاولة ماهوغاني، مراوح مصنوعة من سعف النخيل، بساط من جلد النمر، صور عائليّة، مشهد تصويريّ لبيتِساكويد[5] وصورة كبيرة لجنود جرحى على الثلج:[6] "انسحاب نابوليون من موسكو".

لم يلحظ الطبيب ابنتيه؛ إذ كان هو أيضًا يفكّر في السيّد رامِج. لقد راقه الرجل، نافح عنه، قلّل من شأن غرابة أطواره البادية للعين، رفض بشكل صريح وصمه بالجنون. خطأ جسيم. رامِج، على الأرجح معتوه، إلّا أنّه مات وشبع موتًا. ليس في الوسع فعل شيء.

كان رامِج قد وصل لأوّل مرّة إلى الجزيرة قبل سنتين، رجل وسيم يرتدي طقمًا استوائيًّا، بدلة بيضاء، حزامًا عريضًا أحمر، قبّعة شمسيّة. بعد أن سئِم من ملاحقة جمع من الفتية الزنوج المعجبين، أقلع عن تمنطق الحزام الأحمر واعتمار القبّعة الشمسيّة، ولكنّه تمسّك ببدلته البيضاء رغم أنّ غالبيّة الرجال يرتدون سراويل داكنة حتّى حين تبلغ درجات الحرارة تسعين درجة في الظلّ.

الآنسة لامبتون، الّتي كانت مسافرة باربادوسيّة[7]، جزمت بأنّه رجل محترم وعندما يتعلّق الأمر بالمظهر، فكان أشدّ الرجال وسامة. لكنّه كان شديد الانطوائيّة. تجاهل كلّ الدعوات للحفلات الراقصة، لحفلات التنس، للتنزّه تحت ضوء القمر. لم يرتَدْ الكنيسة قطّ، ولم يلمحه أحد في النادي. بيد أنّه بدا مُحِبًّا للدكتور كوكس، وتناول معه العشاء ذات مساء. وقد وقعت روزالي، الّتي كانت تبلغ السابعة آنذاك، في غرامه.

بعد العشاء، ورغم أنّه يُفترض بالأطفال ألّا يُكثروا من الكلام في حضرة الضيوف، بل لا يسمح لهم عادةً المكوث في الطابق السفليّ البتّة، اقتربت منه وقالت: "غنِّ شيئًا" (المدعوّون للعشاء يغنّون غالبًا عقب ذلك، كما كانت تعلم جيّدًا).

"لا أستطيع الغناء"، قال رامِج.

"بل تستطيع". تعابير وجه أمّها المستنكرة زادتها عزمًا، "تستطيع، تستطيع".

ضحك وأصعدها على ركبتيه، مسندةً رأسها على صدره، أخذت تستمع بينما كان يدمدم برقّة: "بااء بااء أيّها الخروف الأسود، ألديك شيء من الصوف؟ نعم، يا سيّدي، نعم، يا سيّدي، ثلاثة أكياس ممتلئة".

حينذاك، دوّى مدفع القلعة مؤذِنًا بحلول الساعة التاسعة، فتعيّن على الفتاتين، المُعتدّتَين بفستانيهما البيضاوين، أن ترجُوَا ليلة سعيدة بلطف، وأن تصعدا للنوم.

وبعد دور روتينيّ من لعبة «الهويست»[8]، غادرت السيّدة كوكس أيضًا. وأثناء احتساء كأس الويسكي والصودا، أوضح رامِج أنّه قدِم إلى الجزيرة بنيّة شراء عقار. "صغير وقَصِيّ قدر المستطاع".

- "لن يكون هذا عصيًّا هنا".

- "هذا ما سمعته"، قال رامِج.

- "أسعيت إلى ذلك في الجزر الأخرى؟".

- "قصدت أوّلًا باربادوس".

- "إنجلترا الصغيرة"، قال الطبيب، "حسنًا".

- "أُخبِرت بوجود العديد من الأمكنة على امتداد شارع «الإمبريال روود» الجديد هنا".

- "لن تدوم"، قال الطبيب. "لا شيء يدوم في هذه الجزيرة. لا يُرجى منها شيء. سترى".

بدا رامِج حائرًا.

- "الأمر يتعلّق بالغرض من المكان"، قال الطبيب بدون الإفصاح عمّا لديه. "أتسعى إلى جني ربح جيّد لرأس مالك أم ماذا؟".

- "السلام"، قال رامِج. "السلام، هو كلّ ما أسعى إليه".

- "عليك أن تدفع مقابل هذا"، قال الطبيب.

"ما الثمن؟" قال رامِج، مبتسمًا. وضع ساقًا على الأخرى. كان كاحله المكشوف مُشعِرًا ونحيفًا، يداه كانتا طويلتين ونحيلتين، قياسًا لرجل بضخامته.

- "ستكون في غاية الوحدة".

- "هذا سيلائمني"، قال رامِج.

- "إذا رغبت في مكان قصيّ عن الشارع، فسيتعيّن عليك أن تقطع الأشجار، وتحرق الجذوع، وتبدأ من الصفر".

- "ألا يوجد استراحة في منتصف الطريق؟"، قال رامِج.

أجاب الطبيب على نحو مبهم: "لربّما يتأتّى لك تملُّك أحد الأمكنة القديمة".

كان يجول في ذهنه الشابّ أرينغتون والشابّ كيلاوي، اللذان كان كلاهما قد ابتاعا عقارات تقع بمحاذاة «الإمبريال روود»، وعملا بجدّ. لكنّهما استسلما بعد سنة أو اثنتين، باعا أراضيهما بالرخص، وطفقا عائدَين إلى إنجلترا. لم يطيقا وحدة الغابة وكآبتها.

بعد أسبوعين، أخبرت الآنسة لامتون السيّدة كوكس بأنّ السيّد رامِج قد ابتاع القلعة الإسبانيّة، آخر أقدم العقارات. كانت جميلة وإن لم تكن بهيّة – البعض يُرجع الأمر إلى سوء الحظّ، وآخرون إلى سوء الإدارة. جاره الأقرب كان السيّد إليوت، الّذي يمتلك مالغريه تو. تُدعى الآن تويكنهام.

ومنذ ذلك الحين، اختفى رامِج لأشهر عدّة. وذات عصر وأثناء لعبة «كروكيه»[9] سألت السيّدة كوكس الآنسة لامتون في ما إذا كان لديها شيء من أخباره.

- "رجل غريب"، قالت، "شديد التحفّظ".

- "ليس بذاك التحفّظ"، قالت الآنسة لامتون. "لقد تزوّج منذ أسابيع قليلة. أخبرني بأنّه لا يريد أن يُحكى في هذا الأمر".

- "لا!" قالت السيّدة كوكس. "مِمّن؟".

وذاع الأمر حينذاك. رامِج تزوّج فتاة ملوّنة تسمّي نفسها إسلا هاريسون، رغم عدم أحقّيّتها باسم هاريسون. كانت أمّها متوفّاة، وقد تمّت تنشئتها من قبل عرّابتها[10]، الآنسة ميرا العجوز، طبقًا للعرف المحلّيّ. تمتلك الآنسة ميرا متجرًا للحلويات في باي ستريت وإسلا، معروفة جيّدًا في البلدة، معروفة جدًّا.

"أخذها إلى ترينيداد"، قالت الآنسة لامتون بأسى، "ولدى عودتهما كانا متزوّجين. توجّها إلى القلعة الإسبانيّة، ولم أسمع شيئًا عنهما منذ ذلك الحين".

"لا تبدو كما لو أنّها فتاة ملوّنة لطيفة"، قال الجميع.

وهكذا غدا الزوجان رامِج في طيّ النسيان للمجتمع الأبيض، منسيَّين للجميع في ما عدا الطبيب كوكس. القلعة الإسبانيّة تقع في المنطقة الّتي يعرج عليها شهريًّا، وذات عصر بينما كان يقود سيّارته في الجوار، شاهد رامِج يقف بالقرب من صندوق البريد خاصّته، والمثبّت على شجرة يسهل إبصارها من على الطريق. لوّح بيديه. لوّح له رامِج، وأومأ إليه بالاقتراب.

بينما كانا يحتسيان شراب البنش على الشرفة، دخلت السيّدة رامِج. كانت بكامل أناقتها، رائحة عطرها الرخيص كانت نفّاذة، وحديثها كان صاخبًا ذا نبرة عدوانيّة. لا، بالتأكيد لم تكن فتاة ملوّنة لطيفة.

حاول الطبيب – لربّما جاهداً[11] – ففي زيارته التالية للقلعة الإسبانيّة، سمع بابًا في الداخل يُطرق بقوّة، وجاءه فتًى ليُبْلغه متهكّمًا بأنّ السيّد رامِج خرج.

- "والسيّدة رامِج؟".

- "السيّدة ليست في البيت".

في نهاية الطريق المؤدّي إلى القلعة، استدار الطبيب بنظره، وشاهدها على إحدى النوافذ تحدّق فيه.

هزّ رأسه، ولم يعاود الذهاب هناك قطّ، وصار الزوجان رامِج بعيدين عن العين، وعن الخاطر.

كان السيّد إليوت، مالك تويكنهام، هو من افتعل المشكلة. كان خارجًا مع زوجته، كما روى، يُناظر بعض أشجار جوزة الطيب الفتيّة بالقرب من الحدّ[12]. كان برفقتهما صبيّ أوقد نارًا، ووضع ماءً لإعداد الشاي. رفعا بصريهما وشاهدا رامِج قادمًا من بين الأشجار. كانت بشرته قد اكتسبت سفعًا بنيًّا داكنًا، شعره مدلّى على كتفيه، لحيتُه حتّى صدره. كان ينتعل صندلًا ويتمنطق حزامًا جلديًّا، يتدلّى من أحد جانبيه سيف مقوّس قصير، ومن الآخر جِراب ضخم، لا شيء آخر.

"لو"، قال السيّد إليوت، "كان الرجل قد اعتذر إلى زوجتي، لو كان أظهر أدنى إحساس بأنّه عارٍ تمامًا، لكنت غضضت الطرف عن الأمر برمّته. الله أعلم كم يجهد المرء في التحلُّم في هذا المكان البائس، لكن لا شيء. حدّق بها، وكلّ ما تفوّه به كان: "يا له من فستان غير مريح! – ويا لبشاعته!". احْمرّ وجه زوجتي، ثمّ قالت: "سيّد رامِج، الغلّاية بدأت توًّا بالغليان. أترغب في شيء من الشاي؟".

- "لطيف منها"، قال الطبيب. "ماذا كان ردّه؟".

- "حسنًا، لقد بدا مشوّشًا. انحنى حتّى خصره، بالضبط كما لو كان يرتدي ملابس، وأوضح أنّه لم يشرب شايًا قطّ. "لديّ تلك العادة الغبيّة بمحادثة نفسي، أستميحك عذرًا"، قال، ومضى.

عدنا إلى البيت وحَبَسَتْ زوجتي نفسها في غرفة النوم. عندما خرجَت لم تبادرني الحديث ابتداءً، ثمّ قالت إنّه كان محقًّا بالفعل، لم أكن أبالي بمظهرها، وها هي الآن تشاطرني ذلك. دعتني بالرجل اللئيم، رجل لئيم، لن أسمح بهذا"، قال السيّد إليوت بجدّ. "إنّه مجنون، يجوب الأرجاء بسيف مقوّس. إنّه خطير".

- "أوه، لا أظنّ ذلك"، قال الطبيب كوكس. "لربّما ترك ملابسه في مكان ما في الجوار، ولم يدرِ بِمَ يُعلّل الأمر. لربّما نحن نبالغ في تغطية أنفسنا. قد تكون الشمس مفيدة لك، أفضل ما في العالم. لو كنت قد رأيت كما قد ...".

قاطعه السيّد إليوت على الفور. كان يعلم أنّ الطبيب إذا ما شرع في الحديث عن طرائقه غير التقليديّة فسيستطرد لوقت طويل.

- "لا علم لي حيال كلّ هذا، لكن يمكنني أيضًا إخبارك بأنّه لا تروقني فكرة رجل عارٍ بسيف قصير يجوب الأرجاء بالقرب من سُكناي، لا تروقني بتاتًا في الواقع، يتوجّب عليّ وضع زوجتي وابنتي في الاعتبار. يتعيّن فعل شيء ما".

إليوت سرد حكايته لكلّ أذن صاغية، وأصبح آل رامِج موضوع الحديث الأبرز.

"يبدو"، أخبرت السيّدة كوكس زوجها "أنّه، وبصفة عامّة، يرتدي سروالًا - وحتّى معطفًا قديمًا - إذا ما أمطرت، لكنّ عديد الناس قد شاهدوه يستلقي على أرجوحة شبكيّة في الشرفة عاريًا. يتوجّب عليك أن تذهب هناك وتكلّمه. "يقولون"، أضافت "أنّهما يتشاجران مثل قطَّي كِلكِني[13]. إنّه يجعل من نفسه شخصًا غير محبوب".

وهكذا في المرّة التالية الّتي قصد فيها الطبيب المنطقة، توقّف بالقرب من القلعة الإسبانيّة. بينما كان يسير في ممشى الحديقة، لاحظ كم يبدو المكان مزريًا ومهمَلًا. حشائش المرج نمت عاليًا، والشرفة لم تكن قد كُنِست لأيّام.

توقّف الطبيب بشيء من الريبة، ثمّ نقر على باب غرفة الجلوس، الّذي كان مُشرعًا. "مرحبًا"، نادى رامِج من الداخل، وخرج، مبتسمًا. كان يرتدي إحدى بدلاته الكتانيّة، مغسولة ومكوِيّة، شعره ولحيته مهذّبان.

- "تبدو بحالة جيّدة"، قال الطبيب.

- "أوه، أجل، أشعر بالروعة. اجلس، وسأجلب لك شرابًا".

كان يبدو أن لا أحد غيره في المنزل.

- "جميع الخدم قد رحلوا"، أوضح رامِج حين ظهر ومعه شراب البنش.

- "يا إلهي! أوَقد فعلوا؟".

- "أجل، لكنّني قد عثرت على امرأة عجوز، وستأتي إلى هنا وتطهو".

- "وكيف حال السيّدة رامِج؟".

وفي تلك اللحظة سُمِع ارتطام عنيف على جانب المنزل، وآخر، وآخر.

- "ما كان ذاك؟"، سأل الطبيب كوكس.

- "أحدهم يقذف الحجارة. يفعلون ذلك بعض الأحيان".

- "لماذا، بحقّ السماء؟".

- "لا أعلم، اسألهم".

أعاد الطبيب سرد حكاية إليوت، ورغمًا عنه بدت الحكاية سخيفة وهزليّة.

- "أجل، كنت شديد الأسف حيال هذا"، أجاب رامِج بعفويّة. "فاجَؤوني بقدر ما فاجأتهم. لم أتوقّع رؤية أحد. كان ثمّة شيء من سوء الحظّ. لن يحدث الأمر مجدّدًا".

- "من سوء الحظّ مقابلة إليوت"، قال الطبيب.

وانتهى الأمر على هذا، حين نهض مغادرًا، لم تُسدَ أيّة نصيحة أو يُلوَّح بأيّ إنذار.

- "أمتأكّد أنّك على ما يرام هنا؟".

- "نعم، بالطبع"، قال رامِج.

- "الأمر برمّته سخيف"، أخبر الطبيب زوجته ذلك المساء. "الرجل سليم تمامًا، لا شيء مريبًا حياله البتّة".

- "هل كانت السيّدة رامِج هناك؟".

- "لا، الحمد لله. كانت خارجة".

- "هذا الصباح سمعت"، قالت السيّدة كوكس، "بأنّها قد اختفت، لم تُرَ لأسابيع".

ضحك الطبيب من كلّ قلبه. "لِمَ لا يتركون هذين الاثنين وشأنهما؟ يا للسخافة!".

- "حسنًا"، قالت السيّدة كوكس دونما ابتسام، "الأمر غريب، أليس كذلك؟".

"سخافة"، عاود الطبيب القول بعد بضعة أيّام، حين استُحِثّ من قبل إليوت، كان الناس يتحدّثون بضغينة، ولم يتمكّن من إيقافهم. لم تكن السيّدة رامِج في القلعة الإسبانيّة، لم تكن في البلدة. أين هي؟

استُجوِبت العجوز ميرا، قالت إنّها لم ترَ ربيبتها، ولم تسمع منها "منذ وقت طويل". كان بحوزة مفتّش الشرطة رسالتان مجهولتا المصدر؛ إحداهما تدّعي معرفة "كلّ ما جرى في القلعة الإسبانيّة ذات ليلة": الأخرى أفادت بأنّ الشهود يخشون المثول والشهادة ضدّ رجل أبيض.

نشرت الصحيفة الرسميّة مقالًا ناريًّا:

"كان الغرض ممّا يُسمّى «الإمبريال روود» جَذْبُ الشباب الإنجليز من أصحاب رؤوس الأموال، الّذين يودّون ابتياع العقارات وتطويرها في المناطق الداخليّة. هذه التجربة المكلفة لم تكن موفّقة، وآخر هؤلاء السادة مالكي الأراضي، رأى في نفسه ملك جزر آكلي لحوم البشر منذ أن حطّ هنا. تبادر إلينا، من أرفع المصادر حجّيّة، أنّ سلوكه - الغاية في الغرابة - كان أعظم مصدر إزعاج لجيرانه. والآن، أخذ الأمر برمّته منحًى أكثر جدّيّة ...".

وختم: "تحمّل السود الكثير؛ أيتوجّب عليهم أن يتحمّلوا جريمة قتل وحشيّة أيضًا، وبدون أيّ إجراء حيالها؟".

"لا تتوقّع منّي أن أصدّق كلّ هذه الأكاذيب، أليس كذلك؟"، أخبر الطبيب كوكس السيّد إليوت، وردّ عليه السيّد إليوت: "إذن، سأجعل مهمّتي إيجاد الحقيقة. هذا الرجل آفة خطيرة، ويتوجّب التصرّف حياله".

"عزيزي رامِج"، كتب الطبيب كوكس، "يؤسفني إعلامك بانتشار شائعات مُغرضة حول زوجتك وحولك. لا ينبغي لي القول إنّه لا أحد لديه أدنى ذرّة من العقل يأخذها على محمل الجد، لكنّ الناس هنا انفعاليّون وميّالون لتصديق المغرضين؛ لذلك أنصحك أن تضع حدًّا للكلام على الفور، وأن تتّخذ إجراء قانونيًّا إن لزم".

ولكن لم يتلقّ الطبيب ردًّا على رسالته، إذ وصلت البلدة في الصباح أنباء عن اضطرابات وشغب حول القلعة الإسبانيّة في الليلة السابقة.

جمهرة من الشبّان والصبيان، وقلّة من النسوة، قصدوا منزل رامِج لقذفه بالحجارة. كانت ليلة مُقمِرة وضّاءة. كان قد خرج إلى الشرفة، ووقف هناك قبالتهم. كان متّشحًا بالبياض، وبدا فارع الطول، على قولهم، كأنّه زومبي. قال شيئًا لم يسمعه أحد، صرخ رجل: "زومبي أبيض"، وقذف حجرًا أصابه. دخل المنزل وعاد ومعه بندقيّة. وهنا تباينت الروايات تباينًا شديدًا. أطلق النار وأصاب امرأة في مقدّمة الجمهرة. ... لا، كان قد أصاب صبيًّا صغيرًا في الظهر ... لم يطلق الرصاص قطّ، ولكنّه هدّد. كان الإجماع على أنّ التدافع أثناء الهرب أوقع ببعض الناس أرضًا، وأصابهم بأذًى، إحدى النساء إصابتها بليغة.

كما أُشيع أنّ رجالًا وصبيانًا من القرية أزمعوا على إحراق القلعة الإسبانيّة، ورامِج بداخلها إن أمكن. عقب هذا لم يعُد ثمّة مكان للتردّد. في اليوم التالي سلك موكب الطريق المؤدّي إلى المنزل – مفتّش الشرطة، ثلاثة عناصر شرطيّة، والطبيب كوكس.

"عليه أن يقدّم تفسيرًا لكلّ هذا"، قال المفتّش.

كانت كلّ الأبواب والنوافذ مشرعةً، ووجدوا رامِج والبندقيّة، على أنّهم لم يحصلوا على أيّ تفسير. لقد كان ميّتًا منذ ساعات.

كانت جنازته مشهدًا مهيبًا. عدد لا بأس به حضر بدافع الفضول، وآخرون، رغم ما قيل من وفاته جرّاء "حادث"، بسبب شعورهم بالذنب؛ فخلف التابوت سارت السيّدة رامِج، الّتي استُدعيت بأقصى سرعة من قِبَل العجوز ميرا. كانت تمكث مع أقارب في غوادِلوب. حين سُئِلت عن سبب مغادرتها سرًّا – كانت قد أخذت قارب صيد من الجانب الآخر للجزيرة – ردّت بتجهّم بأنّها لم ترد لأيّ أحد أن يطّلع على شؤونها، علمت كيف يثرثر الناس. لا، لم تسمع بأيّة شائعات عن زوجها، ثمّ إنّ الجريدة الرسميّة – جريدة مكتوبة بالإنجليزيّة – لم تكن تُقرأ في غوادِلوب[14].

"إيه – إيه"، ردّدت ميرا، "منذ متى كان إلزام الفتاة بإخبار الجميع أين تذهب وماذا تفعل بالتفصيل ...".

كان الطقس جميلًا، وفي الطريق إلى المقبرة الإنجيليّة اغرورقت عيون الكثير منهم بالدموع.

ولكنّ الرأي العامّ كان ينقلب ضدّ رامِج.

"كان موته نعمة مقنّعة"، قالت إحدى السيّدات، "كان جليًّا أنّه رجل مجنون ومسكين – يجلس في الشمس بلا ملابس – لربّما كان سيحدث ما هو أسوأ بكثير".

"اليوم هو يوم ذكرى الأموات[15]"، خطر لروزالي، بينما هي واقفة على شبّاك غرفة نومها قبل أن تخلد في النوم. كانت تتمنّى لو أمكن دفن رامِج في «المقبرة الكاثوليكيّة»، حيث ظلّت الشموع متّقدة طيلة اليوم، وإن صعبت رؤية نورها في ضوء النهار. عندما حلّ الليل كانت تشعّ كيراعات سراج الليل. غُطِّيت القبور بالزهور – بعضها طبيعيّ، بعضها من الأوراق الصفراء والحمراء أو القصاصات الذهبيّة الصغيرة. أحيانًا تكون ثمّة رسالة مثبّتة بحجر، بيد أنّ السود قالوا إنّ الرسائل كانت قد اختفت في صبيحة اليوم التالي. أين؟ من قد يرغب في سرقة رسائل في ليلة الأموات؟ لكنّ الرسائل اختفت.

«المقبرة الإنجيليّة»، الّتي لا تبعد كثيرًا عن هنا، أسفل التلّة، كانت مهجورة ويلفّها الصمت. البروتستانت يؤمنون بأنّك إذا متّ فأنت ميّت.

لو كان لديه رسالة ... فكّرت.

"محبوبي الغالي السيّد رامِج"، كتبت، ثمّ شعرت بحزن بالغ حتّى أنّها أخذت تبكي.

بعدها بساعتين، دخلت السيّدة كوكس الغرفة، ووجدت ابنتها نائمة في السرير؛ بجانبها على المنضدة كانت رسالة غير منجزة. قرأتها السيّدة كوكس، عبست، أطبقت شفتيها، ثمّ كرمشتها وألقت بها من النافذة.

هبّ نسيم قويّ، وشاهدت الرسالة تثبّ بعزم على الشارع، كأنّها علمت إلى أين كانت ذاهبة.      

 

* كاتبة وروائيّة دومينيكيّة، ولدت في روسّو، دومينيكا وعاشت في بريطانيا حتّى وفاتها عام 1979. كتبت المقالة، الرواية، والقصّة القصيرة، وتُرجمت روايتها الأشهر «بحر ساركاسو الواسع» إلى العربيّة (2016) عن «دار أثر للنشر والتوزيع».

** يجب التنويه هنا إلى الإحالة الأدبيّة المتضمّنة في عنوان القصّة و الدلالة اللغويّة في سياقها الثقافيّ حتّى لا تشتبه على القارئ العربيّ. العنوان مُسْتنسخ من عنوان قصيدة تعتبر من كلاسيكيّات الأدب الأمريكيّ للشاعر والت ويتمان (Walt Whitman). في قصيدته «أنشودة Ode»، على وجه الدقّة والمنشورة عام 1865. يحتفي ويتمان بطلائع الأمريكيّين الّذين غامروا (وقامروا) بالاتّجاه لاستكشاف و استعمار الغرب الأمريكيّ ذو الطبيعة و الجغرافيا الصعبة بدلًا من الاستثمار في الشرق المستقرّ و الواعد. الإيحاء الإيجابيّ و المحمود لكلمة ’روّاد‘ في اللغة العربيّة وإحالة ريس على قصيدة وايتمان، و الّتي يمكن أن تقرأ كأسطورة قيام أمّة، تتناقض مع مضمون قصّتها عن سقوط فرد آَثَرَ العزلة على أن يكون عضوًا في المجتمع. على أنّ اللفظة الإنجليزية الأصلية ’Pioneers‘ تحمل كلا الدلالتين الإيجابيّة أو السلبيّة، كون الريادة مفتوحة على  الصعود أو السقوط.

 


إحالات

 

[1] في النصّ الأصليّ، تُشير الكاتبة إلى درجة الحرارة الشديدة بالحرارة الصفراويّة، ويعود تقليد الترميز لدرجات الحرارة المرتفعة بالألوان لحرفة الحدادة؛ إذ استعاض الحدّادون قديمًا عن غياب موازين الحرارة بالإشارة إلى لون الحديد تحت درجات الحرارة المختلفة، مؤشّرًا على شدّة الحرارة أو انخفاضها. الحرارة الصفراء تتراوح بين 1093 و1258 درجة مئويّة. الإشارة في النصّ كناية عن شدّة الحرّ. 

[2] مِظلّات الباراسول هي مظلّات خفيفة صيفيّة تُستخدم للوقاية من أشعّة الشمس.

[3] التوربان هو غطاء للرأس يشبه العمامة الرجّاليّة.

[4] «اللانسيت» هي واحدة من أعرق الدوريّات الطبّيّة المحكّمة في العالم، أسّسها الجرّاح الإنجليزيّ توماس واكلي في عام 1823. اسم الدوريّة مشتقّ من المشرط الطبّيّ (لانسيت)، المستخدَم في العمليّات الجراحيّة.

[5] بيتِساكويد هي قرية في ويلز. الشقّ الأوّل من اسمها يرجع إلى اللغة الإنجليزيّة الوسيطة، ويعني «بيت الصلاة»، والشقّ الثاني (كويد) مفردة ويلزيّة تعني «غابة». في المحصّلة يمكن ترجمتها إلى «بيت الصلاة في الغابة».

[6] في النصّ الأصليّ، كان ترقيم هذا الموضع بفاصلة.

[7] أي من سكّان جزيرة باربادوس الكاريبيّة.

[8] إحدى ألعاب الورق أو الشدّة.

[9] الكروكيه هي لعبة يحاول فيها اللاعبون تمرير كرة خشبيّة صغيرة، عبر أُطُر معدنيّة مقوّسة ومثبّتة بأرضيّة عشبيّة، مستخدمين مطارق خشبيّة طويلة (يُسمّى مفردها "ماليت")، ويتراوح عدد المتنافسين من اثنين إلى أربعة.

[10] العرّاب أو العرّابة هو الشخص الّذي يقدّم الوليد أو الوليدة لطقس التعميد، ويجيب نيابة عن الطفل أثناء مراسم المعموديّة، كما يتعهّد بأخذ مسؤوليّة تعليم الطفل الدينيّ.

[11] من السياق الإنجليزيّ للنصّ الأصليّ، يُستشفّ أنّه حاول جاهدًا الإبقاء على شكل من أشكال التواصل مع رامِج.

[12] الإشارة هنا إلى الحدّ الفاصل بين عقار السيّد رامِج والسيّد إليوت.

[13] قطّا الكِلكِني، المُسمّى بهذا الاسم نسبة إلى مقاطعة كلكني في إيرلندا، وهما شخصيّتان في إحدى خرافات الموروث الشعبيّ للمقاطعة، الّتي تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر. الخرافة تروي عن شجار شرس نشب بين القطّين، وبنهايته لم يتبقّ سوى ذيليهما. المعنى الضمنيّ أنّ كلّ قطّ قد التهم غريمه حتّى الذيل. يستخدم تعبير "شجار قطَّي كِلكِني" للكناية عن صراع أو نزاع سينتهي بخسارة - أو أذى - كلا طرفيه.

[14] غوادِلوب عبارة عن أرخبيل يقع إلى الشمال من جزيرة دومنيكا، حيث تدور أحداث القصّة. الأرخبيل هو أحد أقاليم ما وراء البحار التابعة لفرنسا، واللغة الفرنسيّة هي لغتها الرسميّة، وهذا يفسّر إنكار السيّدة رامج معرفتها بخبر الوفاة.

[15] يوم ذكرى الأموات هو يوم دينيّ يحتفل به أتباع الكنيسة الكاثوليكيّة في الثاني من تشرين الثاني، ويكون في هذا اليوم تذكُّر الأشخاص الأعزّاء الّذين غيّبهم الموت، من خلال بعض الطقوس والشعائر الّتي تتفاوت من بلد إلى آخر.

 


 

د. أسماء حسين

 

 

أستاذة مساعدة في قسم الأدب والثقافة الإنجليزيّة في جامعة «غوتنغن» الألمانيّة. عَمِلَت سابقًا (2012-2017) مُحاضِرة في قسم الدراسات الإنجليزيّة والأمريكيّة في جامعة «ماساريك» التشيكيّة، ومُحاضِرة في «أكاديميّة هانوفر» الألمانيّة في الفترة ما بين 2018-2020. مهتمّة في مجال دراسات أدب الحداثة وما بعد الحداثة، وأدب ما بعد الاستعمار. إضافة إلى تدريسها للمسرح والرواية من القرن السادس عشر وحتّى القرن الواحد والعشرين.

 

 

 

التعليقات